فصل: تفسير الآية رقم (154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (153):

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بما تَعْمَلُونَ (153)}
{إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بصرفكم أو بيبتليكم وتعلقه بعفا كما قال الطبرسي: ليس بشيء، ومثله تعلقه كما قال أبو البقاء، بعصيتم؛ أو تنازعتم أو فشلتم، وقيل: متعلق قدر كاذكر، واستشكل بأنه يصير المعنى اذكر يا محمد إذا تصعدون وفيه خطابان بدون عطف، فالصواب اذكروا. وأجيب بأن المراد باذكر جنس هذا الفعل فيقدر اذكروا لا أذكر، ويحتمل أنه من قبيل {الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وأجاب الشهاب بأن أذكر متضمن لمعنى القول، والمعنى قل لهم يا محمد حين يصعدون إلخ ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد: أتقول كذا فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة وهم غفلوا عنه فتأمل، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضًا، والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض، وفرق بعضهم بين الإصعاد والصعود بأن الإصعاد في مستوى الأرض والصعود في ارتفاع، وقيل: لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول، وقرأ الحسن فيما أخرجه ابن جرير عنه {تُصْعِدُونَ} بفتح التاء والعين، وحمله بعضهم على صعود الجبل، وقرأ أبو حيوة {تُصْعِدُونَ} بفتح التاء وتشديد العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقى أو من صعد في الوادي تصعيدًا إذا انحدر فيه، فقد قال الأخفش: أصعد في الأرض إذا مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا انحدر، وأنشد:
فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي ** أصعد طورًا في البلاد وأفرع

وقال الشماخ:
فإن كرهت هجائي فاجتنب سخطي ** لا يدهمنك إفراعي وتصعيدي

وورد عن غير واحد أن القوم لما امتحنوا ذهبوا فرارًا في وادي أحد، وقال أبو زيد: يقال: صعد في السلم صعودًا وصعد في الجبل أو على الجبل تصعيدًا ولم يعرفوا فيه صعد، وقرأ أبيّ {إِذْ تُصْعِدُونَ} في الوادي وهي تؤيد قول من قال: إن الإصعاد الذهاب في مستوى الأرض دون الارتفاع، وقرئ يصعدون بالياء التحتية وأمر تعلق إذ باذكر عليه ظاهر.
{وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى عنى عطف وكثيرًا ما يستعمل عنى وقف وانتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوي عنقه، وفسر أيضًا بلا ترجعون وهو قريب من ذلك، وذكر الطبرسي أن هذا الفعل لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا، وقرأ الحسن {تلون} بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفًا. وقرئ {تَلْوُونَ} بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى، ويلوون بالياء كيصعدون، قال أبو البقاء ويقرأ {على أَحَدٍ} بضمتين وهو الجبل والتوبيخ عليه غير ظاهر، ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب أحد أو مكان الوقعة، وفيه إشارة إلى إبعادهم في استشعار الخوف وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان.
{والرسول يَدْعُوكُمْ فِى} أي يناديكم في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى أو يدعوكم من ورائكم فإنه يقال: جاء فلان في آخر الناس وأخرتهم وأخراهم إذا جاء خلفهم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله عليه وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ المنهزمين، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وكان ذلك حين انهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى مدى لا يسمع فيه الصوت فلا ينافي ما تقدم عن كعب بن مالك أنه لما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أنصت لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون، والجملة في موضع الحال.
{أُخْرَاكُمْ فأثابكم} عطف على {صَرَفَكُمْ} [آل عمران: 152] والضمير المستتر عائد على الله تعالى، والتعبير بالإثابة من باب التهكم على حد قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع

أو أنها مجاز عن المجازاة أي فجازاكم الله تعالى بما عصيتم {غَمًّا بِغَمّ} أي كربًا بكرب والأكثرون على أنه لا فرق بين الغم والحزن، والباء إما للمصاحبة والظرف مستقر أي جازاكم غمًا متصلًا بغم؛ والغم الأول: ما حصل لهم من القتل والجرح وغلبة المشركين عليهم، والغم الثاني: ما حصل لهم من الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وفوت الغنيمة، وإلى هذا ذهب قتادة والربيع. وقيل: الغم الثاني إشراف أبي سفيان وأصحابه عليهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصخرة وحكي ذلك عن السدي، وقيل: المراد مجرد التكثير أي جازاكم بغموم كثيرة متصل بعضها ببعض، وإما للسببية والظرف متعلق بأثابكم والغم الأول للصحابة رضي الله تعالى عنهم بالقتل نحوه، والغم الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم خالفة أمره أي أثابكم غمًا بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له ومخالفتكم أمره، وقال الحسن بن علي المغربي: الغم الأول للمشركين بما رأوا من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء الأسد، والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم، وقيل: الباء على هذا للبدل وكلا القولين بعيد، والعطف عليه غير ظاهر وأبعد من ذلك ما روي عن الحسن أن الغم الأول للمؤمنين بما أصابهم يوم أحد، والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر، والمعنى فجازاكم غمًا يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غنم أذقتموه المشركين يوم بدر كذلك، واعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم، وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم، وأثابكم عنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن فاغتم صلى الله عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسًا عنكم، واعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون العطف على{صَرَفَكُمْ} [آل عمران: 152] وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على {يَدْعُوكُمْ} نعم التعليل عليه بقوله تعالى: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم} ظاهر إذ المعنى آساكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد، وكذا على ما ذهب إليه المغربي، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت، وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سببًا للحزن لا لعدمه. وقيل: لا زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم، فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد لا وتكريرها يبعد القول بزيادتها، وقيل: التعليل على ظاهره ولا ليست زائدة والكلام متعلق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152] أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا إلخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن، ولا يخفى ما فيه، ورا يقال: إن أمر التعليل ظاهر أيضًا على ما حكي عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة لا ويوضح ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما اجتمعوا في الشعب وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضًا فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى: {فأثابكم غَمًّا بِغَمّ} إلخ، وحديث إن المجازاة بالغم إنما تكون سببًا للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق، وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سببًا لزوال غم آخر مخصوص أيضًا بأن يعظم الثاني فينسى الأول فتدبر.
{والله خَبِيرٌ بما تَعْمَلُونَ} عليم بأعمالكم وا قصدتم بها، وفي «المقصد الأسني» الخبير عنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرًا، وفي ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية.

.تفسير الآية رقم (154):

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} عطف على {فأثابكم} [آل عمران: 153] والخطاب للمؤمنين حقًا، والمعنى ثم وهب لكم أيها المؤمنون {مّن بَعْدِ الغم} الذي اعتراكم والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان، وتذكير عظم المنة {ءامِنَةً} مصدر كالمنعة وهو مفعول {أَنَزلَ} أي ثم أنزل عليكم أمنا {نُّعَاسًا} بدل اشتمال منها، وقيل: عطف بيان، وجوز أن يكون نعاسًا منصوبًا على المفعولية وأمنة حال منه؛ والمراد ذا أمنة ولا يضر كونها من النكرة لتقدمها أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوي أمنة، أو على أنه جمع آمن كبار وبررة. وقيل: إن أمنة مفعول له لنعاسًا، واعترض بأنه يلزم على ظاهره تقديم معمول المصدر عليه، وإن التزم تقدير فعل أي نعستم أمنة، ورد أنه ليس للفعل موقع حسن، وقيل: إنه مفعول له لأنزل. واعترض بأنه فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل {أَنَزلَ} هو الله تعالى وفاعل الأمنة هو المنزل عليهم، ورد بأن الأمنة كما يكون مصدرًا لمن وقع به الأمن يكون مصدرًا لمن أوقعه، والمراد هنا الثاني كأنه قيل: أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به وحينئذ لا شبهة في اتحاد الفاعل؛ وقرئ بسكون الميم كأنها لوقوعها في زمن يسير مرة من الأمن فلا ينافي كون المقصود مطلق الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر، وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم في ذلك المقام، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا من قابل فقال لهم: نعم فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا فقال: انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فإن القوم ينزلون المدينة فاتقوا الله تعالى واصبروا، ووطنهم على القتال فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعًا عجالًا نادى بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فناموا وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} إلخ، وعن ابن عباس في الآية قال: آمنهم الله تعالى يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. وأخرج خلق كثير عن أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس يوم أحد ونحن في مصافنا وكنت ممن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميد تحت حجفته أي ترسه من النعاس، وعن الزبير بن العوام مثله قيل: وهذه عادة الله تعالى مع المؤمنين جعل النعاس في الحرب علامة للظفر وقد وقع كذلك لعلي كرم الله تعالى وجهه في صفين وهو من الواردات الرحمانية والسكينة الآلهية.
{يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ} قال ابن عباس: هم المهاجرون وعامة الأنصار، وفيه إشعار بأنه لم يغش الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل، والجملة في موضع نصب على أنها صفة لنعاسًا وقرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء الفوقانية على أن الضمير للأمنة. والظاهر أن الجملة حينئذ مستأنفة وقعت جوابًا لسؤال تقديره ما حكم هذه الأمنَة؟ فأجيب بأنها تغشى طائفة، وقيل: إنها في موضع الصفة لأمنة، واعترض بأن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه.
{وَطَائِفَةٌ} وهم المنافقون. {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي جعلتهم ذوي هم وأوقعتهم فيه أو ما يهمهم إلا أنفسهم لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من أهمه عنى جعله مهمًا له ومقصودًا والحصر مستفاد من المقام، وذكر بعضهم أن العرب تطلق هذا اللفظ على الخائف الذي شغله هم نفسه عن غيره، و{طَائِفَةٌ} مبتدأ وجملة {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} إلخ خبره، وجاز ذلك مع كونها نكرة لوقوعها بعد واو الحال كما في قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ** محياك أخفى ضوء كل شارق

أو لوقوعها موقع التفصيل كما في قوله:
إذا مت كان الناس صنفان شامت ** وآخر مثن بالذي أنا صانع

وجوز أن تكون الجملة نعتًا لها والخبر حينئذ محذوف أي ومعكم، أو وهناك طائفة وتقدير ومنكم طائفة يقتضي أن يكون المنافقون داخلين في الخطاب بإنزال الأمنة وأيًا ما كان فالجملة إما حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه، وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين فالواو إما حالية وإما استئنافية وكونها عنى إذ ليس بشيء كما نص عليه أبو البقاء.
{يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق} في موضع الحال من ضمير {أَهَمَّتْهُمْ} لا من {طَائِفَةٌ} وإن تخصصت لما في مجيء الحال من المبتدأ من المقال، وجوز أن تكون صفة بعد صفة لطائفة، أو خبرًا بعد خبر، أو هي الخبر و{قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها وغير منصوب على المصدرية المؤكدة لأنه مضاف إلى مصدر محذوف وهو بحسب ما يضاف إليه أي غير الظن الحق وهو الذي يحق أن يظن به تعالى، وقال بعضهم: إنه مفعول مطلق نوعي، وقوله تعالى: {ظَنَّ الجاهلية} بدل مما قبله.
وقال ابن الحاجب: {غَيْرَ الحق} و{ظَنَّ} مصدران أحدهما للتشبيه والآخر تأكيد لغيره أي يقولون غير الحق ومفعولا {يَظُنُّونَ} محذوفان أي يظنون أن إخلاف وعده سبحانه حاصل، وأبو البقاء يجعل {غَيْرَ الحق} مفعولًا أولًا أي أمرًا غير الحق، و{بالله} في موضع المفعول الثاني وإضافة {ظَنَّ} إلى الجاهلية، قيل: إما من إضافة الموصوف إلى مصدر صفته ومعناها الاختصاص بالجاهلية كرجل صدق وحاتم الجود فهي على معنى اللام أي المختص بالصدق والجود فالياء مصدرية والتاء للتأنيث اللازم له، وإما من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية أي الشرك والجهل بالله تعالى وهي اختصاصية حقيقية أيضًا.
{يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَيْء} أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدًا صلى الله عليه وسلم، أو يقول الحاضرون منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد: هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء، واختاره بعض المحققين. والجملة قيل: إما حال أو خبر إثر خبر أو صفة إثر صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها، أو بدل من {يَظُنُّونَ} وهو بدل الكل بحسب الصدق، وبدل الاشتمال بحسب المفهوم، واستشكل بأن قوله: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا} إلخ تفسير لـ{يظنون} وترجمة له والاستفهام لا يكون ترجمة للخبر كما لا يصح أن تقول: أخبرني زيد قال: لا تذهب أو أمرني قال: لا تضرب، أو نهاني قال: اضرب فإن المطابقة بين الحكاية والمحكي واجبة. وحاصل الإشكال أن متعلق الظن النسبة التصديقية فكيف يقع استفهام ترجمة له؟ وأجيب بأن الاستفهام طلب علم فيما يشك ويظن فجاز أن يكون متعلق الظن وتحقيقه أن الظن أو العلم يتعلق بما يقال في جواب ذلك الاستفهام على ما ذكر في باب تعليق أفعال القلوب باستفهام، ولا يخفى أن هذا إنماهو على تقدير كون الاستفهام حقيقيًا، وأما على تقدير كونه إنكاريًا فلا إشكال، ولا قيل ولا قال لأنه خبر فيتطابق مع ما قبله في الخبرية، وبعض من جعله إنكاريًا ذهب إلى أن المعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء، وقد قال ذلك عبد الله بن أبيّ حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قيل: وظنهم السوء على هذا تصويبهم رأي عبد الله ومن تبعه، وقيل: الاستفهام على ظاهره والمعنى هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، و{صَلَحَ مِنْ} الثانية سيف خطيب، و{شَيْء} في موضع رفع على الإبتداء، وفي خبره كما قال أبو البقاء: وجهان، أحدهما: {لَنَا} فمن الأمر حال، والثاني: {مِنَ الامر} فلنا تبيين وبه تتم الفائدة.
{قُلْ} يا محمد {إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ} أي إن الشأن والغلبة الحقيقية لحزب الله تعالى، وأوليائه فينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويخذل أعداءه ويقهرهم وكنى بكون الغلبة لله تعالى عن كونها لأوليائه لكونهم من الله سبحانه كان، أو أن القضاء أو التدبير له تعالى مخصوص به لا يشاركه فيه غيره فيفعل ما يشاء ويجري الأمور حسا جرى به القلم في سابق القضاء، وعلى هذا لا كناية في الكلام، وجاء مؤكدًا لما أن الكلام الذي وقع هو في مقابلته كذلك.
واستظهر في البحر من هذا الأمر كون الاستفهام فيما تقدمه باقيًا على حقيقته إذ لو كان معناه نفي أن يكون لهم شيء من الأمر لم يجابوا بإثبات أن الأمر كله لله اللهم إلا أن يقدر مع جملة النفي جملة ثبوتية ليكون المعنى ليس لنا من الأمر شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه فحينئذ يمكن أن يكون ذلك جوابًا لهذا المقدّر، وفيه أنه لا حاجة إلى هذا التقدير على ذلك التقدير أيضًا أماإذا كان مرادهم نفي نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه فواضح لأن في هذا القول إثبات ذلك النصر على أتم وجه، وأما إذا كان مرادهم أنه لم يبق لهم من الأمر شيء حيث منعوا تدبير أنفسهم فلأن في ذلك النفي إشعارًا بأن لهم تدبيرًا وأنهم لو تركوا وتدبيرهم ما غمزت قناتهم وهذا الإثبات متكفل برد ذلك وإبطاله على وجه سترة عليه كما لا يخفى فلا أرى التقدير على ما فيه إلا من ضيق العطن، وقرأ أبو عمرو ويعقوب {كُلُّهُ} بالرفع على الابتداء والجار متعلق حذوف وقع خبرًا له، والجملة خبر {ءانٍ}، وأما على قراءة النصب فكل توكيد لاسم {ءانٍ} و{لِلَّهِ} خبرها. وزعم أبو البقاء أنه يجوز أن يكون {كُلُّهُ} بدلًا من {الامر} وفيه بعد.
{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم} أي يضمرون فيها أو يسرون فيما بينهم {مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} أي ما لا يستطيعون إظهاره لك، والجملة إما استئناف أو حال من ضمير {يَقُولُونَ} وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ} اعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وهذا ظاهر على الاحتمال الثاني في الآية الأولى، والذاهب إلى حمل الاستفهام فيها على الإنكار يتعين عنده الاستئناف أو يجوز الخبرية ونحوها أيضًا على ما مر، والجملة الجوابية اعتراضية في كل حال سوى احتمال الاستئنافية على الصحيح، وأما جعل هذه الجملة حالًا من ضمير {قُلْ} والرابط لك فلا يخفى حاله.
{يَقُولُونَ} أي في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهارًا لم يكونوا منافقين، والجملة إما بدل من {يخافون} أو استئناف وقع جوابًا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: ما الذي أخفوه؟ فقيل ذلك، ورجحه بعض المحققين بأنه أكثر فائدة وبأن القول إذا حمل على ظاهره لم يتفاوت القولان لأن قولهم {هَل لَّنَا} للمؤمنين ليس في حال قولهم {لَوْ كَانَ لَنَا} لأصحابهم، وبدل الحال حال، وأنت تعلم أن هذا الأخير مبني على أن القول الأول كان للمؤمنين وقد علمت أنه غير متعين، وقيل: لأنه لا يجتمع قولان من متكلم واحد، وفيه أن زمان الحال المقارن ليس مبنيًا على التضييق كما لا يخفى، ومن هنا علل بعض الفضلاء نفي المقارنة بترتب هذا على ما قبله وعدل عن هذا التعليل فان.
{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَيْء مَّا قُتِلْنَا هاهنا} على معنى لو كان لنا شيء من ذلك كما وعد محمد وادعى أن الأمر لله تعالى ولأوليائه {مَّا قُتِلْنَا} فكأن هذا في زعمهم ردّ لما أجيبوا به أولًا، ويحتمل أن يكون المراد لو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح كما كان رأي ابن أبيّ وأتباعه، ومعنى {مَّا قُتِلْنَا} ما غلبنا لأن القائلين ليسوا ممن قتل لاستحالته، ويحتمل أن يكون الإسناد مجازيًا بإسناد ما للبعض للكل، فالمعنى لو كان لنا شيء من ذلك ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، ثم لا يخفى أن القول بالترتب يستدعي سبق نزول الآية الجوابية وسماعهم لها حتى يتأتى القول بزعم ردها بهذه الشبهة الفاسدة، والظاهر من الآثار عدم نزولها إذ ذاك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية فقال: لما قتل من قتل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أتوا عبد الله بن أبيّ فقالوا له: ما ترى فقال: إنا والله ما نؤامر لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. وأخرج ابن إسحق وابن المنذر وابن جرير وخلق كثير عن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علنيا أرسل الله تعالى علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَيْء مَّا قُتِلْنَا هاهنا} فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ} إلى {هاهنا} وقد يقال: إن هذا القول منهم كالاستدلال على القول الأول وإن كلا القولين وقع منهم ابتداءًا وقصه الله تعالى علينا رادًا له وهذا ظاهر على تقدير أن يكون الاستفهام إنكاريًا وأما على تقدير أن يكون حقيقيًا ففيه خفاء فتأمل.
{قُلْ} يا محمد في جواب ذلك {لَوْ كُنتُمْ} أيها المنافقون {فِى بُيُوتِكُمْ} ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم {لَبَرَزَ} أي لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى البروز {الذين كُتِبَ} في اللوح المحفوظ أو قدر في سابق علم الله تعالى: {عَلَيْهِمُ القتل} في تلك المعركة {إلى مَضَاجِعِهِمْ} أي مصارعهم التي علم الله تعالى وقدر قتلهم فيها وقتلوا هناك البتة فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب، وفيه من المبالغة في ردّ مقالتهم الباطلة ما لا يخفى، وزعم بعض أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه من التفكيك، ولأن الظاهر من {عَلَيْهِمْ} أنهم مقتولون لا قاتلون، وقيل: المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون، ويؤول إلى قولنا: لو تخلفتم عن القتال لا يتخلف المؤمنون، والمضاجع جمع مضجع فإن كان عنى المرقد فهو استعارة للمصرع، وإن كان عنى محل امتداد البدن مطلقًا للحي والميت فهو حقيقة، وقرئ {كتاب} بالبناء للفاعل، ونصب {القتل} و{كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} و{لَبَرَزَ} بالتشديد على البناء للمفعول.
{وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيبًا ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج، أو ليعاملكم معاملة المبتلي الممتحن قاله غير واحد، وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل مطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليتلي إلخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله عليه وسلم مثلًا. والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى: {أَنزَلَ عَلَيْكُم} والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظًا أو معنى، وقيل: إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} [آل عمران: 153] أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والابتلاء، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذٍ، وهي غير ظاهرة، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم، وجعله بعضهم معطوفًا على علة محذوفة وكلتا العلتين {لَبَرَزَ الذين} كأنه قيل لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء.
واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذٍ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض، وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتدّ بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم. وقيل: إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق، وقيل: للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم.
وظاهر قوله تعالى: {وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي ليخلص ما فيها من الاعتقاد من الوسواس، يرجح الأول: لأن المنافقين لا اعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها، ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها، إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل: لأن التمحيص متعلق بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك فيقال: اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن بصدره، وفي القرآن {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان، نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} [الزمر: 22] ومن هنا قال بعض السادات: القلب مقر الإيمان، والصدر محل الإسلام، والفؤاد مشرق المشاهدة، واللب مقام التوحيد الحقيقي، ولعل الآية على هذا تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم، ورا يقال عبر بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناءًا على أن المراد بالجمعين واحد.
{والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات عنى صاحبة لا عنى ذات الشيء ونفسه، وفي الآية وعد ووعيد أو أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين، واختار الصدور هاهنا لأن الابتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقًا بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة، نعم إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال: إن هذه الجملة مشعرة بأنه تعالى غني أيضًا. ومن هنا جوّز بعض المحققين كونها حالًا من متعلق الفعلين أي فعل ما فعل للابتلاء والكشف، والحال أنه تعالى غني عنهما محيط بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذٍ سر التعبير عن الأسرار والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال: إن ذات الصدور عنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلًا من هذين الأمرين ملازم للصدور باعتبار كونه حالًا فيها دون الثانية لأنك لا تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذٍ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير بها لذلك.